فصل: فصل في العِلْمِ وفضْلِهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل في العِلْمِ وفضْلِهِ:

العِلْمُ صفةٌ يُمَيَّزُ المُُتَّصِفُ بِهَا تميزًا جَازِمًا، وقيلَ: هو إدراكُ الشيءِ بحَقيقتِهِ، والعلِمُ فضلُهُ أُشْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ كُلِ مَا اكْتَسَبَهُ الإنسانُ وأَشْرَفُ مُنْتَسِبٍ وأنْفَسُ ذَخيرةٍ تُقْتَنَى وأطلب ثمرةٍ تُجْتَنَى، بِهِ يُتَوَصَّلُ إِلَى الحَقَائِقِ وَإِذَا عَمِلَ بِهِ الإِنْسَانُ على وَفْقِ الشريعةِ أَدْرَكَ رِضَا الخَالِقِ.
و العِلْمُ لاَ يُوصَلُ إِلَى مَعْرِفَةِ فَضْلِهِ وَجَلاَلَةِ قَدْرِهِ إِلا بِالعِلْمِ وَلاَ يَضِيعُ صَاحِبُ العِلْمُ الدِّينِيّ الصَّحِيحِ الذِّي جَاءَ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ يَفْتَقِرُ كَاسِبُ الِعْلِم وَلاَ يَخيبُ طَالِبُهُ وَلا تَنْحَطُّ مَرَاتِبُهُ ما دامَ مُطَبِّقًا لِعِلْمِهِ بِالعَمَلِ وَلا يَجْهَلُ شَرَفَ العِلْمِ إِلا الجَاهِلُ لِقُصُورِ فَهْمِهِ عَنْ عَظِيمِ مَنَافِعِهِ وَكَريمَ مَواقِفِهِ، وَحامِلُُهُ الصائنُ له عن الأدْنَاسِ عَزيزٌ عندَ الناسِ إِنْ قَالَ فَكلامُهُ مَرْمُوقٌ بعَينِ التَّقْدِير وَإِنْ أَمَر فأمرُهُ مَسْمُوع.
وَهُوَ وَسِيلَةٌ لِلْفَضائِلِ وهو نُورٌ زَاهِرٌ لِمَنْ اسْتضاءَ بِهِ وَقُوتٌ هَنِيءٌ لِمَنْ تَقوَّتَ بِهِ تَرْتَاحُ بِهِ الأَنْفُسُ إِذْ هُوَ غِذَاءُهَا وَتَفْرَحُ بِهِ الأَفئِدةُ إَذْ هُوَ قُوَاهَا.
أَجَلُّ مَا يُبْتَغَى دَوْمَا وَيُكْتَسَبُ ** وَيُقْتَنَى مِنْ حُلَى الدُّنْيَا وَيُنْتَخَبُ

عِلْمُ الشَّرِيَعَةِ عِلْمُ النَّفْعِ قَد رُفِعَتْ ** لِمَنْ يُزَاولُهُ بَيْنَ الوَرَى رُتَبُ

إِنْ عَاشَ عَاشَ سَعِيدًا سَائِدًا أَبَدًا ** لا يُسْتَظَامُ ولا يُشْنَا فَيُجْتَتَبُ

وَإِنْ يَمُتْ فَثَنَاءٌ سَائِدٌ أَبَدًا ** وَبَعْدَهُ رَحْمَةٌ ترجَى وَتُرْتَقَبُ

وَهُوَ يَدُلُّ على الخيرِ، وَعَوْنٌ على المُروءَةِ وَهُوَ الصَّاحِبُ في الغُرْبَةِ والمُؤْنِسُ في الْخَلْوَةِ، والشَّرَفُ في النَسَبِ وَلِلْعِلْمِ آثارٌ جليلةُ القدْرِ كَمْ جَلَّ بِهِ مِنْ حَقيرٍ.
وَكُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ أَعْلَمَ كَانَ جَلِيلاً عِنْدَنَا. مَضَى سَلَفُنَا الصَّالِحُ العَامِلُونَ بِعِلْمِهِمْ الوَرِعُونَ الذين لا تأخُذُهم في اللهِ لَوْمةُ لاَئِمٍ الذَّينَ إِذَا ذُكِرُوا وَمَا قَامُوا بِهِ مِنْ نَصْرِ دِينِ اللهِ والدعوةِ إِلَيْهِ استَنَارْتَ المَجَالِسُ وَأَسْفَرَتْ الوُجُوهُ وَارْتَاحَتْ الأَنْفُسُ وَقَوِيَتْ الْقُلُوبُ وَنَشِطَتْ الأبْدَانُ عَلَى الطَّاعَاتِ والعِبَادَاتِ وَوَدَّ المُسْتَمِعُونَ المُحِبُّونَ لِلدِّينِ وَأَهْلِهِ أَنْ يَزْدادُوا مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَسِيَرِهِمْ وَذَلِكَ بِمَا وَهبَهُمُ اللهُ مِنَ الْعِلْمِ الدِّيني وَالتَّمَسُّكِ بِهِ وَآثارِهِ الجَليلةِ، وَكَانُوا خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيينَ وَكَانُوا أَشْجَعَ الناسِ لأنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الأجَلَ لاَ يُطِيلُهُ الجُبْنُ وَكَانُوا أَغْنَى الْعَالَمِ نُفُوسًا وَأَقْوَاهُمْ تَوَكُّلاً عَلَى اللطِيفِ الخبيرِ لأنَّهُمْ رَضُوا بِقِسْمَةِ مَوْلاَنَا العليمِ الحكيمِ، وَكَانُوا مَحَطَّ رِحَالِ الكَرَمِ والجُودِ لأنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ البُخلَ لاَ يُرْضِي اللهَ، وَكَانُوا في الحِلْمِ كَالجبالِ الرَّاسِياتِ لأنَّهُم عَرَفُوا مَا لِلْحِلْمِ مِنْ مَزَايَا دُنْيَا وَأُخْرَى.
وَكَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ الَبلاَيَا بِالصَّبْرِ الجَمِيلِ لِعِلْمِهِمْ أَنَّهَا بِتَقْدِيرٍ وَتَصْرِيفِ الحَكِيمِ الخَبيرِ وَكَانُوا دَائِمًا يَسْتَقْبِلُونَ النِعَمَ بِالشُكِرِ وَالحَمْدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللهِ لِجَزْمِهِمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهُمْ وَلاَ مِنْ سَائِرِ المَخْلُوقِينَ بَلْ مِنْ الكَرِيمِ الدَّائِمِ الإِحْسَانِ الذِّي عَمَّ إِحسانُهُ الخَلايَقَ كُلَّهُمْ، وَكَانُوا يُحِبُّون الخيرَ لِبَعْضِهِمْ كَمَحَبَّتِهِمْ لأنْفُسِهِمْ عَمَلاً بِقَوْلِ الرسولِ الكريمِ: «لا يُؤمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحبُ لِنَفْسِهِ» وَلِعِلْمِهِمْ أَنَّ كَرَاهَتَهُمْ لاَ تُحْدِثُ أيَّ تَغَيّرُ وَقَدْ عَرَفُوا قَوْلَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابنِ عباسٍ: «يَا غُلامُ احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ... » الحَديث رواهُ الترمذي.
وَكَانُوا لا يُحُّبونَ الشرَّ وَأْهَلُه وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ. وَكَانُوا يُرَاقِبُونَ مَوْلاَهُمْ دَائِمًا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم وأَنَّه أَحَاطَ بِكُلِّ شيءٍ عِلْمًا فَلِهَذَا كَانُوا إِذَا قَالُوا أَوْ فَعَلُوا تَحَرَّوْا مَا يُرْضِيهِ جَلَّ وَعَلاَ فِيمَا يَقُولُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ وَهَكَذَا كَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَتَحَرَّكُوا أَوْ يَسْكنوا باسْتِشَارَةِ مَا وَهَبَهُمُ اللهُ مِنَ العِلمِ الدِّينِي يَتَحَرَّكُون وَيَسْكنون لِهَذَا كانوا لليومِ مَوْضِعَ إِعْجَابٍ وَنَالُوا فوقَ هَذا رِضَى رَبِّ العَالمينَ هكذا كَانُوا بِبَرَكَاتِ مَا وَهَبَهُمْ مَوْلاَهُمْ مِنَ العلمِ الدِيني والتمسُّكِ بِهِ تَمَامًا.
وَكَانُوا أَزْهَدَ النَّاسِ في الدُّنْيَا لأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ حَقَارَتِهَا وَسُرْعَةَ زَوَالِهَا وَكَثْرَة هُمُومِهَا وَغُمُومِهَا وإِشْغَالِهَا عَنْ طَاعةِ اللهِ وَلذلكَ كَانَ النَّاسُ يُقَدِّرُونَهُمْ وَيَضَرِبُونَ بِهِمُ الأَمثالَ وَأَنْتَ تَرَى أَنه على قَدْرِ قَنَاعَةِ العُلَمَاءِ في الدُّنْيَا تَكُونُ مَكَانتُهُمْ في نُفُوسِ النَّاسِ والتَفَافُهُم حَوْلَهم والاسْتِمَاعُ لِنَصائِحِهمْ والانقيادُ لإِرْشَاداتِهِمْ وَالرُّجوعُ إِليهِمْ فَيمَا يُشْكِلُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى قَدْرِ تَعَلّقِ العُلََمَاءِ بَالدُّنْيَا وَتَوَجُهِهِمْ إِليها تَكُونُ زَهَادَةُ الناسِ في العُلماءِ وَعَدمُ الثِّقَةِ بَهَمْ واتِّهَامُهُمْ وَالنُفْرَةُ مِنْهُمْ وأَكْلُ لُحُومِهِمْ وَعَدَمُ قُبُولِ كَلاَمِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ وَنَصَائِحِهِمْ فَلاَ يَسْمَعُونَ لَهُمْ قَوْلاً وَلاَ يُعَوِّلُون عَلَيهِمْ في مَا يَجْهَلُونَهُ وَيَحْرَصُونَ عَلَى البُعْدِ عَنْهُمْ وَيَسْتَثْقِلُونَهَمْ والسَّبَبُ الوَحِيدُ كَمَا عَلِمْتَ أَولاً هو التعلقُ بالدُّنْيَا ضِدَّ مَا عَلَيْهِ السلفُ الصَّالِحُ.
قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: اعْلَمْ أَيَّهَا الإِنْسَانُ أَنَّ الدُّنْيَا مَنْزِلةٌ وَلَيْسَتْ بِدَارِ قَرارٍ وَالإِنْسَانُ مُسَافر فَأَوّلُ مَنَازِلهِ بَطْنُ أمهِ وَآخرُ مَنَازِلهِ لحَدُ قَبْرِهِ، وَإِنمَّا وَطَنُهُ وَقَرَارُهُ وَمُكْثُهُ واسْتِقْرَارُهُ بَعْدَهَا في هَذَا.
وَاخْتَصَرُ أَحَدُ العُبَّادِ فَقَالَ: مَا تأَسُّفِي عَلَى دَارِِ الهُمُوم والأَنْكاَدِ وَالأَحْزَانِ وَالخَطَايَا والذُّنُوبِ، وَإنَّمَا تَأُسُّفِي عَلَى لَيْلَةٍ نِمْتُهَا، وَيَوْمٍ أَفْطَرْتُهُ، وَسَاعَةٍ غَفَلْتُ فِيهَا عَنْ ذِكْرِ الله ثّمَّ مَاتَ رَحِمَهُ اللهُ.
وَقَالَ مُطَرِّفُ بنُ الشَّخِيرِ: إِنَّ هَذَا الموتَ نَغَّصَ عَلَى النَّعِيمِ نَعِيمَهُمْ، فاطْلُبُوا نَعِيمًا لاَ مَوْتَ فيهَ، فَكيْفَ وَوَرَاءَهُ يوم يُعَدُّ فيهِ الجَوَابُ وَتَدْهَشُ فيهِ الأَلْبَابُ، وَتفْنَى في شَرْحِهِ الأَقْلاَمُ والكُتَّابُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كُلُّ سَنَةٍ تَنْقَضِي مِنَ الإِنْسَانِ فَكَالمرحَلةِ. وَكُلَّ شَهْرٍ يَنْقَضِي مِنْهُ فَكَاسْتِرَاحَةِ المُسَافِر في طَرِيق، وَكُلُّ أُسْبُوعٍ فَكَقَرية تَلقَاهُ. وكُلُّ يَوْمٍ فَكَفَرْسَخٍ يَقْطَعُهُ.
وَكُلُّ نَفَس كَخَطْوةٍ يَخْطُوهَا. وَبقَدرِ كُلِّ نَفَسٍ يَتَنَفَّسُهُ يَقْرُبُ مِنَ الآخِرَةِ وَهَذِهِ الدُّنْيَا قِنْطَرَةٌ فَمَنْ عَمَّرَ القَنْطَرةَ وَاسْتَعْجَلَ بِعمارتِهَا فَنيَ فِيهَا زَمَانُهُ.
وَنَسِيَ المنزِلةَ التي هِيَ مَصيرُهُ وَمَكَانُه. وَكَانَ جَاهِلاً غَيْرَ عَاقلٍ.
وَإِنمَّا العاقلُ الذِّي لاَ يَشْتَغِلُ في دُنْياهُ إِلا لاِسْتِعْدَادِهِ لِمَعادِهِ وَيْكَتَفِي مِنْهَا بِقدَرِ الحاجةِ وَمَهْمَا جَمَعَهُ فَوقَ كِفَايَتِهِ كَانِ سُمًّا نَاقِعًا وَيَتَمَنَّى أَنْ تَكُونَ جَميعُ خَزَائِنِهِ وَسَائِرِ ذَخَائِرِهِ رَمَادًا وَتُرَابًا لاَ فِضَّةً ولاَ ذَهَبًا وَلَوْ جَمَعَ مَهْمَا جَمَعَ.
فَإنَّ نَصِيبَهُ مَا يَأْكُلَهُ وَيَلْبِسُهُ لا سِوَاهُ وَجَمِيعُ مَا يُخلّفهُ يَكُونُ عَلَيْهِِ حَسْرَةً وَنَدَامَةً وَيَصْعُبُ عَلَيْهِ نَزْعُهُ عِنْدَ مَوْتِهِ فَحلاَلُهَا حِسَابٌ. وَحَرامُهَا عَذَابْ. إِنْ كَانَ قَدْ جَمَعَ المَالَ مِنْ حَلاَلٍ طُلِبَ مِنْهُ الحِسَابَ.
وَإِنْ كَانَ قَدْ جَمَعَ مِنْ حَرَامٍ وَجَبَ عَلَيْهِ العَذَابُ. وَكَانَ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ حَسْرَتِهِ حُلُولُ العَذَابِ في حُفْرَتِهِ وَمَعَ هَذَا جَمِيعُهُ إِذَا كَانَ إِيمانُه صَحِيحًا سَالِمًا لِحَضْرَةِ الدَّيَانِ. فَلا وَجْه لِيَأْسِهِ مِنْ الرَّحْمَةِ والرضوان. فَإِنَّ الله جَواد كَريمٌ غَفُورٌّ رَحِيم.
واعْلَمْ أَنَّ رَاحَةَ الدُّنْيَا أَيامٌّ وَأَكْثَرُهَا مُنَغَصٌّ بالتّعب مَشُوبٌ بِالنَّصبَ. وَبِسَبَبِهَا تَفُوتُ رَاحَة الآخرةِ التي هِيَ الدائمةُ والمُلْكُ الذي لاَ نِهَايَةَ لَهُ وَلا فَنَاء. فَيَسْهُلَ عَلَى العاقل أنْ يَصْبِرَ في هذهِ الأَيَّامِ القَلاَئِل لِينالُ رَاحةً دَائِمَةً بِلا انقضاء.
وَمَنْ يَصْطَبِرْ لِلْعِلْمِ يَظْفَرْ بِنَيْلِهِ ** وَمَنْ يَخْطُبُ الحَسْنَاءَ يَصْبِر عَلَى البَذْلِ

وَمَنْ لاَ يُذِلُّ النَّْفَس في طَلَبِ العُلَى ** يَسِيرًا يَعَشْ دَهْرًا طَوِيلاً أَخَاذْلُ

قَالَ ابْنُ القَيِّم رَحِمَهُ اللهُ:
كُلُّ مَنْ أَثَرَ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ العِلْمِ واسْتَحَبَّهَا فلابد أنْ يَقُولَ عَلى اللهِِ غَيرَ الحقّ في فَتْوَاهُ وَحُكْمِهِ في خَبَرِهِ وَإِلزَامِهِ لأِنَّ أَحكامَ الربِّ سُبْحَانَهُ كَثِيرًا مَا تَأْتِي عَلى خِِلافِ أَغْراضِ النَّاسِ، ولاسيما أهلُ الرِّيَاسَةِ والذِّين يَتَّبِعُون الشُّبُهاتِ فإِنَّهُمْ لا تَتِمُّ لَهُمْ أَغْرَاضُهُمْ إَلا بِمُخَالَفَةِ الحقِّ وَدَفْعِهِ كَثِيرًا فَإِذَا كَانَ العَالِمُ والحَاكِمُ مُحِبِّينَ لِلرِّيَاسَةِ مُتَّبِعِينَ لِلْشَهَوَاتِ لَمْ يَتِمَّ لَهُمَا ذَلِكَ إِلا بِدَفْعِ مَا يُضَادُّهُ مِنَ الحَقِّ وَلاسِيَّمَا إَذَا قَامَتْ لَهُ شُبْهَةٌ فَتَتَّفِقُ الشُّبْهَةُ وَالشَّهْوَةُ وَيثُورُ الهَوَى فَيَخْفَى الصَّوَابُ وَيَنْطَمِسُ وَجْهُ الحَقِّ، وَإِذَا كَانِ ظَاهرًا لا خَفَاءَ بِهِ وَلا شُبْهَةَ فِيهِ أَقْدَمَ عَلَى مُخُالَفَتِهِ وقال لِي: مَخْرَجٌ بِالتَّوْبَةِ وَفي هَؤلاءِ وَأَشْبَاهِهِِمْ قال تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.
فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ أَخَذُوا العَرَضَ الأَدْنَى مَعَ عِلْمِهِمْ بِتَحْرِيمِهِ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ عَرَضَ لَهُمْ عَرَضٌ آخَرُ أَخَذُوهُ فَهُمْ مُصِّرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الحَامِلُ لَهُمْ عَلى أَنْ يَقُولُوا عَلى اللهِ غَيْرَ الحَقِّ فَيَقُولُونَ هَذَا حُكْمُهُ وَشَرْعُهُ وَدِينُهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ دِينَهُ وَشَرْعَهُ وَحُكْمَهُ يُخَالِفُ ذَلِكَ أَوْ لا يَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ دِينُه وَشَرْعُه وَحُكْمُه فَتَارَةً يَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا يَعْلَمُونَ وَتَارَةً يَقُولُونَ عَلَيْهِ مَا يَعْلَمُونَ بُطْلانَهُ. قَالَ وَهَؤُلاءِ لابد أَنْ يَبْتَدِعُوا في الدِّينِ مَعَ الفُجُورِ في العَمَلِ فَيَجْتَمِعُ لَهُمْ الأَمْرَانِ فَإِنَّ إتِّبَاعْ الهَوَى يُعْمِي عَيْنَ القَلْبِ فَلا يُمِيزِ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالبِدْعَةِ أَوْ يُنَكِسُهُ فَيَرَى البِدْعَةَ سُنَّةً وَالسُّنَّةَ بِدْعَةً فَهَذِهِ آفَةُ العُلَمَاءِ إِذَا آثَرُوا الدُّنْيَا وَاتَّبَعُوا الرِيَّاسَاتِ وَالشَّهَوَاتِ وَهَذِهِ الآيَاتِ فِيهِمْ إَلَى قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث}. فَهَذَا مَثَلُ عَالِمِ السُّوءِ الذي يَعْمَلُ بِخَلافِ عِلْمِهِ.
وَخِتَامًا فَإِنَّ العَاقِلَ اللَّبِيبِ يِتَأَسَّفُ عَلِى إِهْمَالِ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُتُبِ أَهْلَ العِلْمِ وَالإِيمَانِ يَبْنَى عَلَيْهِمَا الغُبَارُ وَيُسْتَبْدَلُ بِهِمُا قَتْلُ الوَقْتِ في أَلُوْوَ كَمْ بَاعَ فُلاَنٌ وَكَمْ شَرَىَ فُلاَنٌ وَأَيْنَ قَضَيْتَ العُطْلَةَ فِيهِ وَأَيْنَ تَقْضِي المُسْتَقْبَلَةَ وَارْفَعْ الجَرِيدَةَ وَأَعْطِنِي الأُخْرَى وَأَيْنَ المَجَلَّةُ الفُلانِيَّةُ وَمَا الذي ظَهَرَ في التِّلِفِزْيُونِ وَمَاذَا بِالإذَاعَةِ الفُلانِيَّةِ هَذَا وَأَمْثَالُهُ كُثِيرٌ مِنْ نَوَاحِي مَعْلُومَاتِنَا مَعْشَرَ هَذَا الجِيلِ يَشِّبُ الوَاحِدُ مِنَّا وَيَشِيبُ وَهُوَ جَاهِلٌ بِسَيرِ سَلَفِنَا وَتَطْبِيقِهِا وَالإقْتِدِاءِ بِمَنْ أَمَرَنَا سَيَّدُنُا ومولانا بِإتِّبَاعِهِمْ مِنْ رُسُلِهِ الكِِرَامِ وَمَنْ اقْتَدَى بِهِمْ وَحَذَا حَذْوَهُمْ وَنَهَجَ مَنْهَجُهُمْ مِمَّنْ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقهمْ مولاهم يُنفِقُونَ، {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} إلى آخر السورة.
اللَّهُمَّ إَليْكَ بِدُعَائِنَا تَوَجَّهْنَا وَبِفَائِكَ أَنَخْنَا وَإِيَاكَ أَمَّلْنَا وَلِمَا عِنْدِكَ مِنَ الجُودِ وَالإِحْسَانِ طَلَبْنَا وَلِرَحْمَتِكَ رَجَوْنَا وَمِِنْ عَذَابِكَ أَشْفَقْنَا وَلِغُفْرَانِكَ تَعَرَّضْنَا. اللَّهُمَّ أَحْيِي قُلُوبًا أَمَاتَهَا البُعْدُ عَنْ بَابِكَ وَلا تُعَذِّبْنَا بَأَلِيمِ عَقَابِكَ يَا أَكْرَمَ مَنْ سَمَحَ بِالنَّوَالِ وَجَادَ بَالأَفْضَالِ، اللَّهُمَّ أَيْقِضْنَا مِنْ غَفْلَتِنَا بِلُطْفِكِ وَإِحْسَانِكَ، وَتَجَاوَزْ عَنْ جَرَائِمِنِا بِعَفْوِكَ وَغُفْرِانِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
هَذِهِ قَصِيدَةٌ تَحْتَوِي عَلَى الحَثِّ عَلَى طَلَبِ العِلْمِ وَالزُّهْدِ في الدُّنْيَا وَالإِقْبَالِ عَلَى الآخِرَةْ.
تَفُتُّ فُؤَادَكَ الأَيَّامُ فَتًا ** وَتَنْحَتُ جِسْمُكَ السَّاعَاتُ نَحْتًا

وَتَدْعُوكَ الْمَنُونُ دُعَاءَ صَدْقٍ ** أَلا يَا صَاحِ أَنتَ أُريدَ أَنْتَا

أَرَاكَ تُحِبُّ عِرْسًا ذَاتَ غَدْرٍ ** أَبَتَّ طلاقَها الأكْيَاسُ بَتًّا

تَنَامُ الدَّهْرَ وَيْحَكَ فِي غَطِيطٍ ** بِهَا حَتَّى إِذَا مِتَّ انْتَبَهْتَا

فَكَمْ ذَا أَنْتَ مَخْدُوعٌ فَحَتَّى ** مَتَى لا تَرْعَوِي عَنْهَا وَحَتَّى؟!

أَبَا بَكْرٍ دَعَوْتُك لَوْ أَجبتَ ** إِلى مَا فِيهِ حَظَّكَ لَوْ عَقِلْتَا

إِلى عِلْمٍ تكونُ بهِ إمامًا ** مُطَاعًا إِنْ نَهَيْتَ وإِنْ أَمَرْتَا

وَيَجْلو ما بِعَيْنِكَ مِنْ غِشَاءٍ ** وَيَهْدِيكَ الصِّراطَ إذا ضَلَلْتَا

وَتَحْمِلُ منهُ فِي نَادِيكَ تَاجًا ** وَيَكْسُوكَ الْجَمَالَ إِذَا اغْتَربْتَا

يَنَالُكَ نَفَعُهُ ما دُمْتَ حيًّا ** وَيَبْقَى ذِكْرُهُ لَكَ إِنْ ذَهَبْتَا

هُوَ الْعَضْبُ الْمُهَنَّدُ لَيْسَ يَكْبُو ** تَنَالُ بِهِ مَقَاتِلَ مَنْ ضَرَبْتَا

وَكَنْزٌ لا تخافُ عليهِ لِصًّا ** خَفِيفُ الْحَمْلِ يُوجَدُ حَيثُ كُنْتَا

يَزِيدُ بِكَثْرةِ الإِنْفَاقِ مِنْهُ ** وَيَنْقُصُ إِنْ بِهِ كَفًّا شَدَدْتَا

فلو قَدْ ذُقْتَ مِنْ حَلْواهُ طَعْمًا ** لآثرْتَ التَّعَلُّمَ وَاجْتهدْتَا

وَلَمْ يَشْغَلْكَ عنهُ هَوىً مُطاعٌ ** وَلا دُنْيَا بِزُخْرِفُهَا فُتِنْتَا

وَلا يُلْهِيكَ عَنْهُ أَنِيقُ رَوْضٍ ** ولا خَوْدٌ بزينَتِهَا كَلِفْتَا

فَقُوْتُ الرُّوحِ أرْواح الْمَعَالِي ** وَلَيْسَ بَأنْ طَعِمْتَ وأنْ شَرِبْتَا

فَوَاظِبْهُ وَخُذْ بالْجِدِّ فِيهِ ** فَإِنْ أَعَطَاكَهُ البارِي أَخَدْتَا

وَإِنْ أُوتِيتَ فِيهِ بِطوُلِ بَاعٍ ** وَقَالَ النَّاسُ: إِنَّكَ قَدْ سَبَقْتا

فلا تَأمَنْ سُؤالَ اللهِ فِيهِ ** بِتَوْبِيخٍ عَلِمْتَ فهلْ عَمِلْتَا؟!

وَضَافِي ثَوْبِكَ الإحسان لا أنْ ** وَلَيْسَ بأَن تَعَالى أَوْ رَئِسْتَا

وإنْ أَلْقَاكَ فَهْمُكَ فِي مَهَاوٍ ** فَلَيْتَكَ ثُمَّ لَيْتَكَ مَا فَهِمْتَا

إذا ما لمْ يُفِدْكَ العلمُ خَيْرًا ** فَخيرٌ مِنْهُ أَنْ لَوْ قَدْ جَهِلْتَا

سَتَجْنِي مِنْ ثِمَارِ اللَّهْوِ جَهْلاً ** وَتَصْغَرُ في العُيُونِ إذا كَبِرْتَا

وَتُفْقِدُ إِنْ جَهِلْتَ وَأَنْتَ بَاقٍ ** وَتُوجَدُ إِنْ عَلِمْتَ إِذا فُقِدْتَا

سَتَذْكُرُ لِلنَّصِيحَةِ بَعْدَ حِينٍ ** وَتَطْلُبُهَا إذا عَنْهَا شُغِلْتَا

وَسَوْفَ تَعَضُّ مِنْ نَدَمٍ عَلَيْهَا ** وَسَوْفَ تَعَضُّ مِنْ نَدَمٍ عَلَيْهَا

إِذَا أَبْصَرْتَ صَحْبَكَ في سَمَاءٍ ** وَقَدْ رُفِعُوا عَليكَ وَقَدْ سُفِلْتَا

فراجعها وَدَعْ عَنْكَ الهُوَيْنَا ** فَمَا بِالبُطْءِ تُدْرِكُ ما طَلَبْتَا

وَلا تَحْفِلْ بِمَالِكَ وَالْهُ عنهُ ** فَليسَ المَالُ إلا ما عَلِمْتَا

وَلَيسَ لِجَاهِلٍ في الناسِ مَغْنَىً ** وَلَوْ مُلْكُ الأنَامِ لَهُ تَأَتَّى

سَيَنْطَقُ عَنْكَ مَالُكَ في نَدِيٍّ ** وَيَكْتُبُ عنكَ يَومًا إِنْ كَتَبْتَا

وَما يُغْنِيكَ تَشْييدُ الْمَبَانِي ** إذا بالجَهْلِ دِينَك قد هَدَمْتَا

جَعَلْتَ المَالَ فَوْقَ العِلْمِ جَهْلاً ** لَعَمْرُكَ في القَضِيَّةِ مَا عَدَلْتَا

وَبَيْنَهُمَا بِنَصِّ الوَحْي فَرْقٌ ** سَتَعْلَمُهُ إِذا طَه قَرَأْتَا

لَئِنْ رَفَعَ الغَنِيُّ لِوَاءَ مَالٍ ** فَأنْتَ لِوَاءَ عِلمِكِ قَدْ رَفَعْتَا

وَإِنْ جَلَسَ الْغَنِيُّ عَلَى الْحَشَايَا ** فَأنْتَ عَلَى الْكَوَاكِبِ قَدْ جَلَسْتَا

وَإِنْ رَكِبَ الْجِيادَ مُبسَوَّمَاتٍ ** فَأنْتَ مِنْاهِجَ التَّقْوَى رَكِبْتَا

وَمَهْمَا افْتَضَّ أَبْكَارَ الْغَوَانِي ** فَكَمْ بِكْرٍ مِنَ الحِكَمِ افْتَضَضْتَا

وَلَيْسَ يَضُرُّكَ الإِقْتَارُ شَيْئًا ** إِذَا مَا أَنْتَ رَبَّكَ قَدْ عَرَفْتَا

فِيامَا عِنْدَهُ لَكَ مِنْ جَزِيلٍ ** إِذَا بِفِنَاءِ طاعتِهِ أَنَخْتَا

فَقَابِلْ بالقَبُولِ صَحيحَ نُصْحِي ** وَإِنْ أَعْرَضْتَ عَنْهُ فقَدْ خَسِرْتَا

وَإِنْ رَاعَيْتَهُ قَوْلاً وَفِعْلاً ** وَعَامَلْتَ الإِلَهَ بِهِ رَبِحْتَا

فَلَيْسَتْ هَذِه الدُّنْيَِا بشيءٍ ** تَسُوؤكَ حُقْبَةً وَتَسُرُّ وَقْتَا

وَغَايَتُهَا إِذَا فَكَّرْتَ فِيها ** كَفِئكَ أَوْ كَحُلْمِكَ إِنْ رَقَدْتَا

سُجِنْتَ بِهَا وَأَنْتَ لَهَا مُحِبٌ ** فكَيفَ تُحبُّ مَنْ فِيهَا سُجِنْتَا

وَتُطْعِمُكَ الطَّعَامَ وَعَنْ قَلِيلٍ ** سَتُطْعَمُ مِنْكَ مَا مِنْهَا طَعِمْتَا

وَتَعْرَى إِنْ لَبِسْتَ بِهَا ثِيَابًا ** وَتُكْسَى إنْ مَلابِسَهَا خَلَعْتَا

وَتَشْهَدُ كُلَّ يَوْمٍ دَفْنَ خِلٍّ ** كَأنك لا تُرادُ بِمَا شَهِدْتَا

وَلَمْ تُخْلَقْ لِتَعْمُرَهَا وَلَكِنْ ** لِتَعْبُرَها فَجِدَّ لِمَا خُلِقْتَا

وَإِنْ هَدَمْتَ فَزِدْهَا أَنْتَ هَدْمًا ** وَحَصِّنُ أَمْرَ دِينِكَ مَا اسْتَطَعْتَا

ولا تَحْزَنْ لِمَا قَدْ فَاتَ مِنْها ** إِذَا مَا أَنْتَ فِي أُخْرَاكَ فُزْتَا

فَلَيْسَ بِنَافِعٍ ما نِلْتَ مِنْهَا ** مِنْ الفانِي إِذَا الباقي حُرِمْتَا

وَلا تَضْحَكْ مَع السُّفَهَاءِ جَهْلاً ** فَإنَّكَ سَوْفَ تَبْكِي إِنْ ضَحِكْتَا

وَكَيْفَ بِكَ السُّرورُ وأنتَ رَهْنٌ ** وَلا تَدْرِي غَدًا أَنْ لَوْ غُلَبْتَا؟!

وَسَلْ مِنْ رِبِّكَ التَّوْفِيقَ فِيهَا ** وَأَخْلِصْ في الدُّعاء إِذَا سَأَلْتَا

وَنَادِ إذ سُجِنْتَ بِهِ اعْتِرافًا ** كَمَا نَادَاهُ ذُو النُّونِ بنُ مَتَّى

وَلازِمْ بَابَهُ قَرْعًا عَسَاهُ ** سَيَفْتَحُ بابَهُ لَكَ إِنْ قَرَعْتَا

وأكْثِرْ ذِكْرَهُ في الأرِضِ دَابًّا ** لِتُذْكَرَ في السماءِ إِذَا ذَكَرْتَا **

وَلا تَقُلِ الصَّبَا فِيهِ امْتِهالٌ ** وَفَكِّرْ كَمْ صَغِيرِ قَدْ دَفَنْتَا

وَقُلْ لِي: يَا نَصِيحِي لأَنْتَ أَوْلَى ** بِنُصْحِكَ إِذْ بِعَقْلِكَ قَدْ عُرِفْتَا

فَتَعْذِلُني عن التَّفريطِ يَوْمًا ** وَبَالتَّفْرِيطِ دَهْرَكَ قَدْ قَطَعْتَا

وَفِي صَغِرِي تُخوِّفُنِي الْمَنَايَا ** وَمَا تَجْرِي بِبَالِكَ حِينَ شِخْتَا

وَكُنْتَ مَعَ الصِّبَا أَهْدَى سَبِيلاً ** فَمَا لَكَ بَعْد شَيْبِكَ قَدْ نُكِسْتَا

وَهَا أَنَا لَمْ أَخُضْ بَحْرَ الخَطَايَا ** كَمَا قَدْ خُضْتَهُ حَتَّى غَرِقْتَا

وَلَمْ أَشْرَبْ حُمَيَّا أَمْ دَفْرٍ ** وَأَنْتَ شَرِبْتَهَا حَتَّى سَكِرْتَا

وَلَمْ أحْلِلْ بَوَادٍ فِيهِ ظُلْمٌ ** وَأَنْتَ حَلَّلْتَ فِيهِ وَانْتَهَكْتَا

وَلَمْ أَنْشَأ بَعَصْرٍ فِيهِ نَفْعٌ ** وَأَنْتَ نَشَأْتَ فِيهِ فَمَا انْتَفَعْتَا

وَنَادَاكَ الكِتَابُ فَلْم تُجِبْهُ ** وَنَبَّهَكَ الْمَشِيبُ فما انْتَبَهْتَا

وَقَدْ صَاحبْتَ أعْلامًا كَثِيرًا ** فَلَمْ أَرَكَ انْتَفَعْتَ بِمَنْ صَحِبْتَا

وَيَقْبُحُ بَالْفَتَى فِعْلُ التَّصَابِي ** وَأَقْبَحُ منه شَيْخُ قَدْ تَفَتَّى

فَأَنْتَ أَحَقُّ بَالتَّفِنِيدِ مِنِّي ** وَلَوْ سَكَتَ الْمُسِيءُ لِمَا نَطَقْتَا

فَنَفْسَكَ ذُمَّ لا تَذْمُمْ سِوَاها ** بَعْيبٍ فَهِي أَجْدَرُ إِنْ ذَمَمْتَا

وَلَوْ بَكَتِ الدِّمَا عَيْنَاكَ خَوْفًا ** لِذَنْبِكَ لَمْ أَقُلْ لَكَ قَدْ أَمِنْتَا

فَمَنْ لَكَ بَالأمَانِ وَأَنْتَ عَبْدٌ ** أُمِرْتَ فَمَا ائْتَمَرْتَ وَلا أَطَعْتَا

فَسِرْتَ الْقَهْقَرَى وَخَبَطْتَ عَشْوًا ** لَعَمْرُكَ لَوْ وَصِلْتَ لَمَا رَجَعْتَا

ثَقُلْتَ مِنَ الذُّنُوبِ وَلَسْتَ تَخْشَى ** لِجَهْلِكَ أَنْ تَخِفَّ إِذًا وُزِنْتَا

وَلَوْ وَافَيْتَ رَبَّكَ دُونَ ذَنْبٍٍ ** وَنَاقَشَكَ الحِسَابَ إِذَا هَلَكْتَا

لَمْ يَظْلمْكَ فِي عَمَل وَلَكِن ** عَسَيرٌ أَنْ تقُومَ بما حَمَلْتَا

تَوَجَّعُ لِلْمُصِرِّ عَلَى الخَطَايَا ** وَتَرْحَمُهُ وَنَفْسَكَ مَا رَحِمْتَا

وَلَوْ قَدْ جِئْتَ يَوْمَ الْفَصْلِ فَرْدًا ** وَأَبْصَرْتَ الْمَنَازِلَ فِيهِ شَتَّى

لأعَظَمْتَ النَّدَامَةَ فِيهِ لَهْفًا ** عَلَى مَا فِي حَيَاتِكَ قَدْ أَضَعْتَا

تَفِرُّ مِنْ الْهَجِيرِ وَتَتَقِيهِ ** فَهَلا مِن جَهَنَّمَ قَدْ فَرَرْتَا!!

وَلَسْتَ تُطيقُ أَهْوَانَها عَذَابًا ** ولو كُنْتَ الْحَدِيدَ بِها لَذُبْتَا

وَلا تكْذِبْ فَإنَّ الأَمْرَ جَدٌّ ** وَلَيَسَ كَمَا حَسِبْتَ وَمَا ظَنَنْتَا

أَبَا بَكْرٍ كَشَفْت أَقَلَّ عَيْبِي ** وَمَا اسْتَعْظَمْتَهُ مِنْهَا سَتَرْتَا

فَقُلْ مَا شِئْتَ فِي مِن الْمَخَازِي ** وَضَاعِفْهَا فَإنَّكَ قَدْ صَدَقْتَا

وَمَهْمَا عَبْتَنِي فَلِفَرْطِ عِلْمِي ** بِبَاطِنَتِي كَأنَّكَ قَدْ مَدَحْتَا

وَلا تَرْضَى الْمَعَائبَ فَهِيَ عارٌ ** عَظِيمٌ يُورِثُ الإِنْسَانَ مَقْتَا

وَتَهْوَى بَالوَجِيهِ مِنَ الثُّرَيَا ** وَتُبْدِلُهُ مَكانَ الْفَوْقِ تَحْتَا

كَذَا الطَّاعَاتُ ُتبِلِغُكَ الدَّرَارِي ** وَتَجْعَلُكَ القَرِيبَ وإنْ بَعُدْتَا

وَتَنْشُرُ عَنْكَ فِي الدُّنْيَا جَمِيلاً ** فَتَلْقَى البِرَّ فِيها حَيْثُ شِئْتَا

وتُمسِي في مَسَاكِنِهَا عَزِيزًا ** وَتَنْجِي الحَمْدَ مِمَّا قَدْ غَرَسْتَا

وَأَنْتَ اليومَ لمْ تُعْرِفْ بِعَيْبٍ ** وَلا دَنَّسْتَ ثَوْبَك مُذْ نَشَأْتَا

وَلا سَابَقْتَ في مَيْدَانِ زُورٍ ** وَلا أَوْضَعْتَ فِيهِ وَلا خَبَبْتَا

فَإنْ لَمْ تَنْأَ عنهُ نَشَبْتَ فِيهِ ** فَمَنْ لَكَ بَالخَلاصِ إِذَا نَشَبْتَا؟!

وَدَنِّسَ مِنْكَ مَا طَهَّرْتَ حَتَّى ** كَأنَّكَ قَبْلَ ذلكَ مَا طَهُرْتَا

وَصِرْتَ أَسِيرَ ذَنْبِكَ فِي وِثَاقٍ ** وَكَيْفَ لَكَ الفِكَاكُ وَقَدْ أُسِرْتَا؟!

فَخَفْ أبْنَاءَ جِنْسِكَ وَاخْشَ مِنْهُمْ ** كَمَا تَخْشَى الضَّرَاغِمَ والسَّبَنْتَا

فَخَالِطْهُم وَزَايلْهُمْ حِذارًا ** وَكُنْ كالسَّامِري إِذَا لُمْستَا

وَإِنْ جَهِلُوا عَلَيْكَ فَقُلْ سَلامٌ ** لَعَلَّكَ سَوْفَ تَسْلَمُ إِنْ سَلِمْتَا

وَمَنْ لَكَ بالسَّلامَةِ فِي زَمَانٍ ** يُزِلُّ الْعُصْمَ إِلا إِنْ عُصِمْتَا

وَلا تَلْبثْ بَحَيٌ فِيهِ ضَيْمٌ ** يُمِيتُ القَلْبَ إلا أَنْ كُبِلْتَا

فَغَرِّبْ فالتَّغْرُّبُ فِيهِ خَيْرٌ ** وَشَرِّقْ إنْ بِرِيْقِكَ قَدْ شَرِقْتَا

فَلَيْسَ الزُّهْدُ في الدُّنْيَا خُمُولاً ** فأنْتَ بها الأميرُ إذا رَهِدْتَا

فَلَوْ فَوقَ الأَمِيرِ يكُونُ عَالٍ ** عُلُّوًا وارْتِفَاعًا كُنْتَ أَنْتَا

فإنْ فارَقْتَهَا وَخَرجْتَ منها ** إلى دارِ السَّلامِ فقد سَلِمْتَا

وإنْ أكْرَمْتَها وَنَظَرْتَ فِيهَا ** بَإجْلالٍ فَنفسَكَ قَدْ أَهْنَتَا

جَمَعْتُ لَكَ النَّصَائحَ فَامْتَثِلْهَا ** حَيَاتَكَ فَهِيَ أَفْضَلُ مَا امْتَثَلْتَا

وَطوَّلْتُ العِتَابَ وَزِدْتُ فيهِ ** لأَنَّكَ في البَطَالةِ قَدْ أَطَلْتَا

فَلا تَأْخُذْ بَتَقْصِيرِي وَسَهْوي ** وَخُذْ بِوَصِيَّتِي لَكَ إِنْ رُشِدْتَا

وَقَدْ أَرْفَقْتُهَا سِتًّا حِسَانًا ** فَكَانَا قَبْلَ ذَا مِأةً وَسِتًّا

وَصَلَّى اللهُ مَا أَوْرَقْ نَضَارٌ ** عَلَى الْمُخْتَارِ في شَجَرٍ وَحَنَّا

اللَّهُمَّ يَا مَنْ خَلَقَ الإِنْسَانَ في أَحْسَنِ تَقْويمٍ وَبِقُدْرَتِهِ التي لا يُعْجِزُهَا شَيْءٌ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِي رَمِيمٌ نَسْأَلُكَ أَنْ تَهْدِينَا إِلى صِرَاطِكَ الْمُسْتِقيمِ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصَّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ والصَّالِحِينَ، وَأَنْ تَغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنهُم وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
موعظة:
عباد الله سَيَصْحُو السَّكرانُ من سُكْره، حِينَ لا يُمْكِنِهُ تَلافي أَمْرهْ وَسَيْنَدَمُ المضيع على تَضْييعه، إِذَا قَابلَهُ أَمْر صَنِيعهْ، وَسَيُقْصرُ الأَمَلَ من أمله وقْتَ هجُومِ أجَله، وتعذر الزيادة في عَمَله، والخروج من بين مالهِ وَأَهْلِهْ.
هُنَالِكَ يَستحَيلُ حُلْوُ العيش مُرًا وَيَنْقَلبُ عُرْفُ الأمر نُكْرًا، ويَعْلمِ جَامِعُ الحطام الذِي أَضَاعِ بِهِ أَوْقَاتَهُ أن الباقيات الصالحات أَبْقَى ذِكرَا وأنفعُ ذُخْرَا، ليس في ظل الدنيا مقيل ولا على هَذِهِ الحياةِ تَعويلِ.
كَيْفَ يطمعُ عاقِلٌ في الإقامة بدار الرحيل، كيف يَضحَك من هو مَحْفُوفَ بمُوجبات البُكاء والعَويل، أسْمَعَنا النَّاصِحُ فَتَصَامَمْنَا، وَأيْقَظَتْنَا الغيَرُ فَتَنَاومْنَا، وَرَضِينَا بَالْحَياةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخرِة، واشْتَرَيْنَا مَا يَفْنَى بِمَا يَبْقَى فَتِلْكَ إِذًا صفقَةٌ خَاسِرَة.
أَيْنَ الآذَانُ الْواعِية، أيْنَ الأعْيُنُ البَاكِية، قَوْلٌ بلا فِعَال وأمْرٌ بلا امتثال رُسُلُ مَلَكِ الموت في كُل نَفَس تَدْنُوا إلى أنْفُسِنَا وأجْسَادُ أَحِبَّتِنَا تحتَ أطباق الثرى هَامدة.
قد أو حَشَتْ منهم دِيَارُهُمْ، وَدَرَسَتَ رُسُومُهَم وآثارُهم، وتقطعت بالبلاء أوَصالُهم، وَمَحَتْ أَيْدِي الحَوادثِ والقُبور مَحَاسِنَ تِلكَ الصُّورَ، وأطْبَقُت عَليهم ضُلَماتُ تِلْكَ الحُفَر.
فلا شَمس فيها ولا نُور ولا قَمر، ونَحْنُ عَمَّا قَريب إلى مَا صاروا إليه صائرون، وبالكأس الذي شربوا منه شارِبُون ثم مع هذا اليقين إلى دار الغرور راكنون.
طُوبَى لِمَنْ فِي مَراضي رَبِّه رَغَبَا ** وَعَنْ مَصَارِعِ أهلِ اللَّهْو قَدْ هَرَبَا

قَدْ وَطَّنَ النفسَ أنَّ اللهَ سَائلُهُ ** فَفَرَّ مِنْهُ إِلَيْهِ مُهِيبًا هَرَبَا

وَللتُقَى مَرْكَبٌ يَنْجُو برَاكِبِهِ ** فَيَا نَجَاةَ الذي مَعْ أَهْلِهِ رَكَبَا

وَلِلْهُدَى رُفْقَةٌ فَاسْعَدْ بِصُحْبَتِهْمِ ** فَيَا سَعَادَةَ مَن أَهلَ الهدُى صَحَبَا

لِلَّهِ دُرُّ عِبَادٍ قُرْبَهُ طَلَبُوا ** لَمْ يَطْلُبُوا فِضَّةً منه ولا ذَهَبَا

سَارُوا بَعْزِمِ وَتَشْمِير وَمَا اتَّخَذُوا ** فِي سَيْرِ دُنْيَاهُمُوا لَهْوًا وَلا لَعِبَا

الصِّدْقُ مَرْكَبُهم والحقُ مَطْلَبُهُمْ ** لا زُورَ مَازَجَ دَعْواهُم ولا كَذِبَا

اللَّهُمَّ علمْنَا مَا يَنْفَعْنَا وانْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي عُلومِنَا وَأَعْمَالِنَا وَأَعْمَارِنَا وَأصْلِحْ نَيَّاتِنَا وَذُرَّيَاتِنَا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.